الأحد، 5 أكتوبر 2025

غرفتان… وحياة ونصف


عشتُ في غرفتين للنوم طوال حياتي. واحدة احتضنتني ثلاثين عامًا، كانت موطناً لطفولتي وصباي وشهادتي الأولى على ذاتي، والأخرى تقاسمتني منذ سنوات قليلة... لكنها لم تألفني بعد.

غرفتي الحالية لم تكن اختياري الأول، كمعضلة الحب الاول، وهى ليست كذلك! بل كانت نتاج ما يُعرف بـ "أحسن الوحشين". حين خططنا للنقل صممتها بعناية، رسمتها بروحي، وسلّمت تفاصيلها لنجّار خان الحلم والأمانة، فوعد ولم يُوف، واحترف الكذب والنصب لأول مرة على حسابي. ولضيق الوقت، ولأسباب أخرى، اضطررتُ لاختيار ما هو جاهز، لا ما يُشبهني.
ومنذ لحظة دخولها، شعرت أنني في موعدٍ مُدبّر، تقاسمتُ معها ابتسامات خجلى، ومراوغات صامتة. لا خلافات بيننا، لكن لا أحاديث دافئة أيضاً. مساحة صافية، حيادية، كأنني بنيتها لأحتمي بها من الذكرى، لا لأصنع معها واحدة.

أما غرفتي الأولى، فقد كانت أنا. مليئة بي. مرّت بتحولات كثيرة، كنت أنا فيها المهندسة، والمُصمّمة، والمُرتبكة.
عرفتها كما يعرف القلب خفقاته، وتعلّمت أن أستحضر تفاصيلها بدقة لتمرين أوصتني به طبيبتي النفسية حين داهمتني نوبات الهلع: "اختاري خمسة أشياء حولك، ركّزي بها، لاحظيها بعينيك، بيديك، بأنفاسك." وهكذا، دون إصرار منى صارت غرفتي الأولى مرآتي... ومأمني.

شباك صغير يطل على منور، كانت الشمس تتسلل من خلاله كأنها تعرف طريقها إليّ. ذات يوم، في لحظة انتصار داخلي وتمرد، استبدلتُ ستارتها القديمة بستارة شيفون برتقالية. كانت تموّج الضوء كل صباح في عينيّ كأنها تحييّني برقصاتها المنتعشة.

بجانب السرير، كرسيّان عريضان، انفصلا عن كنبة تسكن غرفة أمي، بينما قررت ان يسكنا غرفتي دون اعتراض. لم يُظهر أيٌّ منهما حنينًا لقطيعه الأصلي، بل احتضناني، بتفهّم غريب.
كنت أكوّم علي أحدهما ثيابي المتأخرة عن الترتيب، لكنه ظلّ صبورًا، لا يتذمّر، كأننا اتفقنا منذ البداية على توزيع الأدوار بالتراضى.

سريري الأول لم يُشترَ من أجلي، بل كان سرير زواج والديّ، وقد قُصَّ ليُناسب غرفتي الصغيرة، سرير يخصنى بعرض 110 سم صار عالمي الخاص. كنت في بداية المراهقة، واعتبرته وسامًا صامتًا من أهلي: "أنتِ الآن أنثى، وهذا لكِ وحدك."

كان له ظهرٌ من أعمدة خشبية متراصة، تشبه برامق الشرفات. كانت أمي تكرهها، تراها شبيهة بشباك سجن. أما أنا، فكنت أراها شبيهة بسيدات مكتنزات واثقات، فخورات بأجسادهن. أحببته لأنه يشبهني، أو ربما أحببته لأنه ظهر بلمحة سريعة في مسلسل "أرابيسك" اول هعدى بحب الخشب وتفاصيلة، وعلية عشقته ككنز اثرى يسكن غرفتى.

لكن، ككل ما هو جميل... تداعى.

كبرتُ، تضخّمت وتكاثرت تفاصيل أشيائي، وتطلبت دولابًا مستقلاً. فما كان من أمي، بحسها العملي وحنكتها إلا ان تبدع في رسم لوحتها المعمارية الاقرب لقلبي، مباشرة في الجدار المقابل للشباك:
دولابٌ يلتصق به ثلاثة رفوف كتب بطول الحائط، وتحتها، يرقد سريري الجديد بسلام، يرقد في ظلّ المكتبة التي حلمت بها طويلًا. 
في مكتبتى ، رتبتُ هدايا أعيادي، وكتبًا اقتنيتُها من مصروفى من فاعليات "القراءة للجميع"،فصارت مكتظه بلحظات سعيده وانتصارات تخصنى.

في مقابلة السرير، تحت الشباك ولكن ليس مباشرة ، تمركزت ترابيزة بنية دائرية، بدأت رحلتها مع المنزل منذ زواج أمي وأبي، لكنها لم تُستخدم أبدًا في تناول الطعام. كانت كمن وُلد لغرض آخر لم يُكتب له أن يُمارَس، لكنها وجدت وظيفتها الحقيقية معي… صارت صديقتي في المذاكرة، طاولة لحروفي وأحلامي.

أسفل الشباك مباشرة، ترابيزة مستطيلة بمفرش بلاستيكى من المربعات الصغيرة، دوما ما سكنتها كتب دراساتي. كانت ركني السام، لأنها تجمّع الغبار، وأنا مصابة بحساسية منه. كنت أتعامل معها كما يتعامل الجراح مع المريض الصعب، بقفازات، بحذر، بغسيل مبالغ ليداى فور معانقتها. وكأننى أستعيد ملكيتي لنفسي.

لم أكن كصديقاتي المراهقات أعلّق صور الممثلين والمغنين، لم أُحب أحدًا منهم كفاية لأستضيفه على جداري. لكنني ذات يوم، بعد تأمّلات كثيرة، قررت أن أعلّق صورة "لوريل وهاردي"، تلك الصورة التي سكنت شقة "جوي وتشاندلر" بطلا مسلسلى المفضل "Friends". طبعتها على فينيل متين، وعلقتها بفخر فوق سريرى… كان قرارى بما يخصها واضحا، فهى رفيقة ثابتة.
على عكس الصور الأخرى، اللائى علقتهم على السطح الجانبى من الدولاب، كانت لفنانات أحببت أنوثتهن: سامية جمال، هند رستم، مارلين مونرو… طبعتهن على ورق عادي. كأنني أعلم في داخلي أن رأيي بهن قد يتبدّل، عكس لوريل وهاردي، رفاقي الأبديين في التهكم والدفء.

في تلك الغرفة، بكيتُ وضحكتُ، حلمتُ وانهرت.
ومن تحت شباكها، خضت أول مكالماتي العاطفية، كنتُ أحدّق في القمر وأرتب كلماتي، في محاولة لأبدو أكبر مما أنا عليه… أو أصغر مما أتظاهر.

كل تفصيلة في تلك الغرفة كانت تُشبهني، وكل زاوية حملت توقيعي الداخلي. وحين خرجت منها، أيقنت أن بعض الغرف لا تُفارقنا، بل تسكن داخلنا. نلوذ بها حين تضيق الأرض، ونستعيدها حين تضيع ملامحنا.

ليست هناك تعليقات: