الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

نافذة

غرفتي ذات نافذتين تطلّان على منورين منفصلين من بيت جدّي، ذاك البيت العتيق المليء بالمناور. بعد أول دروسي في العمارة ناقشت والدي عن سرّ ولع جدّي بتكرارها، فأوضح لي أنّ للمنور شأنًا كبيرًا في زمنٍ مضى؛ فهو ساحة النساء للنوادر والحكايات، ولغسل الثياب ثم نشرها. ولهذا حرص جدّي، القاطن في الطابق الأرضي، أن يقتطع لنفسه أوسع المساحات من المناور، تاركًا أبناءه في الطوابق العليا يختنقون بشقق صغيرة لا ترى غير مربّعات ضيّقة من السماء.

نافذتي الأولى كانت بابًا للظلمات؛ منها يتسرّب إليّ صرير الفئران وهي تتسلق الجدران، فتترك في جسدي قشعريرة لا تهدأ. وأما الثانية، فكانت بوابتي إلى اللانهاية وما بعدها. تقع في ضلع قصير لمنور مستطيل يمتد طويلًا، فيمنحني زاوية بانورامية تنتهي بسماء واسعة، تتناثر فوقها غيوم خفيفة وزغب حمامٍ صغير يمرح فوق أسطح الجيران.

أول رسائلي الغرامية لا تزال تسكن أرضية ذلك المنور؛ ألقيتها من النافذة متمنية أن يحملها الهواء إلى محبوبي الخرافي، عابرًا المسافات والحواجز وحتى الزمن. كنت أصلّي أن تقع بين يديه في اللحظة المناسبة، وأن أعرف يقينًا حين القاه كونها اللحظة الموعودة. هكذا صادقت نافذتي ذات الستائر البرتقالية، المتطايرة بغنوجة مدللة، تبعث في الغرفة روحًا مرحة لا تزال تهيمن على ذاكرتي حتى اليوم.

وعند حافة تلك النافذة نفسها، كنت أمتلك ما لم يمتلكه جدّي ولا أبي؛ لقد حازا الأرض والمناور، أما أنا فامتلكت السماء. أجلس طويلًا أُناجي الله، أترقّب شهابًا عابرًا يوثّق أن دعائي قد وصل، ويؤكد أن السماء، رغم ضيق المنافذ، أوسع من كل الجدران.


ليست هناك تعليقات: