الجمعة، 29 أغسطس 2025

حلم..

كان الليل ساكنًا بسكونٍ خادع، حتى انفجر فجأة بنباحٍ هائج؛ كلابٌ جائعة تعوي وتندفع خلفي، بينما قدماي مثبّتتان في الأرض كأن غراءً غامضًا قيدهما إلى العجز. لم أكن أرى المشهد بعيني وحدهما، بل بعين طائرٍ محلّق، كأنني ارتفعت فوق الحدث أراقبه من علٍ، وأنقله في بثّ حيّ إلى وكالات الأنباء. تتقافز في ذهني عناوين صاخبة: "فتاة في ورطة!"، "صراع البقاء يبتلع المدينة!". أيّ جنونٍ يجعلني أصف المأساة كصحفية، بينما أنا الفريسة؟

صوت الكلاب يقترب. أنفاسي تتلاحق حتى تصمّ أذنيّ، وقلبي يدقّ كطبلٍ مجنون، يحبسني داخل اللحظة أكثر وأكثر. أضرب قدمي بيدي لأتأكد أنها لم تُشل تمامًا. الزمن يتباطأ في جسدي، بينما العالم من حولي يركض مسرعًا بيأس. ألتفت بين الفينة والأخرى، أعدّ المسافة بيني وبين أنيابهم، وكل التفاتة تزيد شعوري بالعجز.

حين بدأ اليأس يغمرني، لمعت في رأسي فكرة وحيدة: أن أركض نحو الخطر ذاته. اندفعت فى اتجاههم، فاكتسبت أمتارًا من الجنزير الثقيل الذي كبّلني. قبضت عليه بكل ما تبقّى لي من شجاعة، لففته حول يديّ كأنني -إنديانا جونز- يستعد لمبارزةٍ لا مفر منها. روحي ترتجف، لكن جسدي يتقمّص إصرارًا مخادعًا. الكلاب تقترب… تقترب… وأنا أترقّب اللحظة الفاصلة للمواجهة بينما أتأكد من قبضتى على الجنزير.

 صحوت. العرق يغمر وسادتي، وعطش قاسٍ يعصر حلقي. جلست أحدّق في السقف، أتحسس السرير من تحتي كأنني أحتاج أن أتيقّن من حقيقته. ثم انخرطت في بكاء طويل لا يهدأ؛ بكاءٍ لم يكن من الخوف وحده، بل من إدراكٍ قاسٍ أن الكلاب لم تكن في الحلم فقط.

الاثنين، 18 أغسطس 2025

رسائل الرحمة المؤجَّلة"رسالة رقم ٢"


عزيزتي،

بدأت رسالتي السابقة بـ "حبيبتي"، لكني وجدت أن "عزيزتي" أقرب لما أقصده. ربما هو جنون الريبة والخوف من أحكام الآخرين من يتحدث الآن من خلالى، لكن فلتكن "عزيزتي" منذ اليوم.

علمت البارحة أني مصابة بإحدى متحورات كورونا الجديدة، يدعى دلتا. للاسم في حد ذاته وقع جميل، لكنه يتناقض تمامًا مع ما يفعله داخلي بينما يسعى في جسدي فسادًا مدمرا خلاياي المرهقة. أخبرتني الطبيبة الخبر بوجه هادئ، فيما واجهتها أنا بملامح جامدة، كأنني لا ابالى. والحقيقة أني كنت أصرخ من الداخل: "كفااااية!"، لا لأن بيدها صافرة النهاية وتستطيع، بل لأنني أردت أن أفرغ تلك الطاقة المكبوتة والغضب المتراكم.

لم أفعل. فما ذنبها؟ تركتها، وأنا أغرق في شعور بالرثاء لحالي. معدتي منهكة من كثرة الأدوية، جسدي يتهالك تحت أيادٍ متعددة: غضب ديسكات ظهري ورقبتى، عصبية قولونى -البراوى-، صداع عقلى النصفي الذى لا يهدأ… وها هو القوس يزاح ليضم بين حوافه "المتحور الكيوت المسمى دلتا".

أتعلمين؟ أنا أغضب حين يهاجمني المرض. أغضب وأفقد ثقتي بقدرات جسدي، كأن علاقتي به – وهي في الأصل حساسة ومعقدة – تجد في كل علة جديدة سببًا إضافيًا للتمزق.
لا اريد ان اتمزق، اخاف ان اتمزق والأكثر من موعد التمزق، من تجربتى فدوما ما كان التوقيت غير مناسب إطلاقا.

أطلتُ في رثائي لذاتى، ولا أريد لرسالتي أن تنقل إليك طاقة سلبية. الحقيقة أنني سعيدة… أو على الأقل أحاول أن أبدو كذلك. وكعادتي أقول: fake it till you make it. أجل، لا زالت تلك هي تميمتي للايام.

اليوم فعلت شيئًا مختلفًا؛ أيقظت المخبر شارلوك هولمز الكامن داخلي، وتتّبعت الخيط حتى النهاية. كنت قد نسيت نشوة هذا الانتصار؛ نشوة أن يستيقظ ذلك المحقق الشبق بالتحليل ثم التحليل. فلم ينجح أي شيء مؤخرًا في إثارة حفيظتي لأفكر، ملل متوقَّع، فأنت تعلمين أنني مدمنة على توقّع أسوأ السيناريوهات، والعالم لا يبخل علينا بالأسوأ أبدًا. لكن الجميل حقًا أنّي شعرت وكأن عقلي قرر أن ينتصر حيث خانني جسدي. الحمد لله.

لكِ كل الحب،
أنا.


السبت، 16 أغسطس 2025

رسائل الرحمة المؤجَّلة"رسالة رقم١"


حبيبتي،

وحشتيني فعلًا، وقلبي يتوق أن أراكِ. لكنني لست في أحسن حالاتي هذه الأيام، وأخشى أن لا أكون الشخص الذي اعتدتِ أن تلتقيه. وهذا، في الحقيقة، هو التحدي الذي أضعه بين يديك: أن تفهمي أنني، وسط ضحكة عابرة، قد أبكي. وأن ورقة صغيرة ممزقة قد تستدر دموعي بلا سبب ظاهر. وأنني قد أسرح بعيدًا بينما أجلس أمامك، ليس هروبًا منك، بل لأنني غارقة في شيء ما داخلي.


ولهذا لم أقابل أحدًا منذ مدة، ليس لأنكم لم تعودوا تملأونني بالشوق، بل لسببين أعرفهما جيدًا:

الأول، أنني عوّدتكم على نسخة من نفسي لم أعد قادرة على تمثيلها الآن. وهي حقكم، أعلم، لكنني عاجزة عنها.

والثاني، أنني قررت – كما قال أحمد زكي يومًا – اوعى تلف بجرحك تشحت-. لست أريد عزاءً ولا حلولًا، أريد فقط أن أُمهل نفسي بعض الوقت، أن أتعامل معها برحمة لا أكثر.


هذه معادلة صعبة، أعلم، وربما لا تُفهم بسهولة. لذلك اخترت أن أكون وحدي، رحمةً بي وبالآخرين، فكل واحد فينا مُثقل بما يكفيه.


إن وجدتِ كلماتي واضحة لا تحتاج إلى أسئلة جديدة، فأخبِريني. أمّا إذا أردتِ أن تسأليني أكثر، فلن أستطيع أن أجيب، فداخل رأسي ما يكفيني من الأسئلة المؤجلة التي أحاول الرد عليها بصعوبة.


إن كنتِ مستعدة لكل هذا، قولي لي... وساعتها فقط سأخبرك متى يمكننا أن نلتقي.


لكِ كل الحب،

أنا.